کد مطلب:306554 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:207

بدایة الغیوم


أضاء الصباح بشمس باهتة الاشعة والاشراق، ترسل ضیاءها و كأنها عاجزة علی ان تكدد فی ان تضی ء به حوانیت الدنیا.

و اننی ما اظنها (یا سیدتی) إلّا أن تكون قد باتت لیلها المنصرم خائفة یطویها القلق من كابوس ارعب اشعتها الجمیلة حینما داهم مدینة الرسول.

والتی اَلم بها ثلاثة ایام بعدما حُرمَ المسلمون من نوره البهی و طلعته النیرة.

.. لكنها الیوم اصبحت و من جدید مطمئنة، قد عاودها رضا البال.

.. وها هی المدینة تستقبل الشمس بعدما انفجرت عن قلوب أهلها أصباغ الهم التی طوتها.

و قد اثلجت صدورهم فهدأت الخواطر، وابتسمت الشفاه والنواظر.

وها هم أهل المدینة یستقبلون حیاتهم كما عهدوها، ریانة جمیلة، یرفرف علیها نور و صفاء محمد، فتردها مشرقة مستبشرة بمحیاه الحبور.


.. فأن اُویقات المرض التی عارضت النبی جعلت المسلمین یحلمون بشبح مخیف سیطر فیها علی حواسها فأكربها.

.. لكنهم الیوم ینعمون بالنظر إلی صورته الكریمة، یولیهم من رقیق حنانه و عذب بیانه.. كما عهدوه من قبل.

فأنهم و قبل یومهم هذا ما كانوا لیلمحوا بقبس من الأمل.. فیما أحاط بهم من قنوط، لانهم سمعوا حجة الوداع التی كانت اول النُذر بالمصیر المخوف. فأثارت توجساً فی نفوس المسلمین فهم جمیعاً قد سمعوه اذ ذاك یقول:

- (انی لا أدری لعلیّ لا القاكم بعد عامی هذا بهذا الموقف ابداً).

(بلی) سیدتی البتول فما عسی أبوك قد عنی بهذا الكلام، إلّا أن جعل الابدان مقشعرة، ترتعش بهزة الجزع، حینما نصّب علی بن أبی طالب ولیاً و حاكماً علی المسلمین من بعده.

و كان ذلك فی یوم (غدیر خم)، فلم یغب عن اخیله المسلمین ذلك المكان و تلك الربوة، التی وقف علیها الرسول صلی اللَّه علیه و آله و سلم و حروف كلماته التی تصدع رناتها بالآذان، و هو یأخذ البیعة منهم لوصیه (أمیرالمؤمنین) و قد اطمئن الحال به و هو یربت علی كتف علی قائلاً:

- «هذا علی من بعدی، اللهم و ال من والاه، و عادی من عاداه.. وانصر من نصره واخذل من خذله». [1] .

ثم أخذ بید علی و قال:- (الست ولی المؤمنین): قالوا (بلی) قال:

«من كنت مولاه فعلی مولاه» [2] .


.. ثم أخذت افواج المسلمین تسلم علی علی بن أبی طالب بأمرة المؤمنین.

.. ثم جاءهم آخر التنزیل فی ختام آیاته:

(الیوم أكملت لكم دینكم، واتممت علیكم نعمتی و رضیت لكم الاسلام دیناً) [3] ثم قال:

«اننی تارك فیكم الثقلین كتاب اللَّه و عترتی أهل بیتی». [4] .

.. فغدت النفوس علی حوافی الیأس.. لكن هذا كله و غیره ما لبث أن طوی فی غیابات النسیان، و تبدد القنوط و طویت اعلامه.

(إن محمداً قد بری ء).

نسی المسلمین قلقهم حینما طلع علیهم صلی اللَّه علیه و آله و سلم بنور وجهه الصبوح، (ثم صلی صلاته الأخیرة) فی المسلمین، لكنه لم یمض وقت طویل حتی عاد منها خابی ء اللون معصوب الرأس.

.. عندها جلست عنده اقرب العالمین، واحبهم إلیه.. كانت نظراتها تشتمل علی غموض تمور فیها كآبة و حزن، فتّشت السنین عنه فی قلبها حتی ارجعته لها.

.. كانت عیونها قد اشرأبت منها أوردة حمراء من داخلها.

فلقد قضت فاطمة امسها بجنب الرسول تمرضه، فلم یغمض لها جفن فی تلك اللیلة.. و كان وجهها النحیف الشاحب یعكس مدی ذلك الحزن، بل انه ینعكس فی كل قسماتها و ملامحها.

و ما تصرمت الایام إلّا و تجسم حدس البتول، الذی كان یقض مضجعها فیملأ


نفسها هماً و كرباً.

فقد صار یقیناً حینما دخلت علی ابیها فی آخر لقاء لها به فی بیت عائشة، و ما أن دخلت البیت حتی تبعتها عیون الحاضرات، و هی تشق صفوفهن و كأن الرسول قد طالعهم بنوره و محیاه.

ثم أخذت خطواتها المتمثلة بخطوات ابیها تنحدر من صبب، كأنما تتقلع من صخر.

فتلفتن اُخری نحو اُخری، یتهامسن بالشفاه علی هذا الطالع الذی لا (یخرم فی مشیته و طلعته محمد) صلی اللَّه علیه و آله و سلم لكن الحقیقة هو شبح الزهراء الذی جاء حاملاً معه سكونا و دموعاً و ألماً، و ذلك حینما نظرت امامها محمد صلی اللَّه علیه و آله و سلم الراقد فی سریره و هو لا یستطیع ان یستقبلها كما عهدته من قبل.

.. فاقتربت منه تجر معها العبرات، و احادیث ذات شجون.. حتی ان صارت بین یدیه فوقع بصرها ملتقیاً ببصره، فكأن رجلاها قد خارت قواهما فوقعت علی الأرض أسیرة بین الدموع والشكوك:

(هذا رسول الاسلام، قاصم المشركین و حامی الضعفاء والمحرومین، مسجیً مصفر اللون).

.. فانفجرت عیونها بالدموع، و هی تحمل معها تلك المعاناة التی سترسم مدی الاحزان التی ستسری إلی نفسها.

.. لكن النبی استقبلها بنفس العیون المشرقة بالایمان، و التی ما خف و هیجها المحفوف بالحب والایمان ابداً.

استقبلها بقلبه الرحوم، و نظراته التی امتلأت ببریق انوار الرحمان.. فطوقت بتوله التی انكبت علیه تقبله، و تعتصره محتضنة ایاه كاحتضان اُم لولدها، تعلم بمصیره و انها ستحرم منه، و كأنها تود أن تقول له (دعنی اتزود منك یا نور عینی فدتك نفسی الذی فیك حل فی).

ظلت عیون الزهراء غارقة بنظراتها التی تخبرها عن المصیر المحتوم.


و هذه هواجسها تعصف بها بین الخواطر المرة، التی تدیر دفة وجدانها.

(و كأننی بلسان حالها یقول):

(ابتی، ابتی.. یا نور عینی.. ابتی لا تحرمنی صوتك.. فما تستطیع نفسی ان تراك امامها ساكناً، و تنسی عذب فغرك و ابتسامة و بریق عینیك).

.. ثم تتقاطر الدموع من بین مآقیها.. فتنشج الشفاه نشیجاً حزیناً.



[1] السيوطي في الدّر المنثور، في ذيل تفسير قوله تعالي: (اليوم اكملت)، مشكل الآثار ج 2 ص 307.

[2] تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 8 ص 290، السيوطي في الدر المنثور، الفخر الرازي في تفسيره الكبير، أحمد بن حنبل في مسنده ج 1 ص 119، الهيثمي في مجمعه ج 7 ص 17، مشكل الآثار ج 2 ص 307.

[3] المائدة آية 3.

[4] الآلوسي في روح المعاني ج 2 ص 348، الشوكاني في فتح القدير ج 3 ص 57، فرايد السمطين، الخازن في تفسيره ج 1 ص 448، البدخشاني في مفتاح النجاة، المنار لمحمد عبدو ج 6 ص 463، تفسير الساير الداير للنيسابوري ج 6 ص 170، صحيح البخاري ج 8 ص 584، ينابيع المودة ص 120، الطبري في تفسيره ج 6 ص 198.